الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقول الآخر: وسيأتي لهذا مزيدُ بيان في غضون هذا التصنيف. وممَّن ذهب إلى أن هذا الموصولَ مجرور عطفًا على الموصول قبله ابن عطية وأبو القاسم الزمخشري.الثاني: أن {الذين} مبتدأ، وجزاء سيئة مبتدأ ثانٍ، وخبره {بمثلها}، والباء فيه زائدة، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]، كما زِيْدَتْ في الخبر كقوله: أي: شيء يستطاع، كقول امرئ القيس: أي: المجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية.الثالث: أن الباءَ ليست بزائدةٍ والتقدير: مُقَدَّر بمثلها أو مستقر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُه خبرٌ عن الاول.الرابع: أن خبرَ {جزاء سيئة} محذوفٌ، فقدَّره الحوفي بقوله: {لهم جزاء سيئة} قال: ودَلَّ على تقدير لهم قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} حتى تتشاكلَ هذه بهذه. وقدَّره أبو البقاء: جزاء سيئة بمثلها واقع، وهو وخبره أيضًا خبر عن الأول. وعلى هذين التقديرين فالباءُ متعلقةٌ بنفس جزاء، لأن هذه المادةَ تتعدَّى بالباء، قال تعالى: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} [سبأ: 17] {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} [الإنسان: 12] إلى غير ذلك. فإن قلت: أين الرابطُ ين هذه الجملةِ والموصولِ الذي هو المبتدأ؟، قلت: على تقديرِ الحوفي هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبرًا، وعلى تقديرِ أبي البقاء هو الضميرُ المجرور باللام المقدر خبرًا، وعلى تقدير أبي البقاء هو محذوف تقديرُه: جزاءُ سيئة بمثلها منهم واقعٌ، نحو: السَّمْن مَنَوان بدرهم وهو حَذْفٌ مُطَّرد لِما عرفْتَه غيرَ مرة.الخامس: أن يكونَ الخبرُ الجملةَ المنفية من قوله: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ}، ويكون {مِنْ عاصم} إمَّا فاعلًا بالجارِّ قبله لاعتماده على النفي، وإمَّا مبتدأً، وخبرُه الجارُّ مقدمًا عليه، و{مِنْ} مزيدة فيه على كلا القولين.و{من الله} متعلقٌ بـ {عاصم}. وعلى كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ. وفي ذلك خلافٌ عن الفارسي تقدَّم التنبيهُ عليه وما استدلَّ به عليه.السادس: أن الخبرَ هو الجملةُ التشبيهية من قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ}، و{كأنما} حرف مكفوف، وما هذه زائدة تسمَّى كافَّةً ومهيِّئة، وتقدَّم ذلك. وعلى هذا الوجه فيكون قد فَصَلَ بين المبتدأ وخبره بثلاثِ جملِ اعتراض.السابع: أن الخبر هو الجملة من قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار}، وعلى هذا القولِ فيكونُ قد فصل بأربعِ جمل معترضة وهي: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا}، والثانية: {وتَرْهَقُهم ذلة}، والثالث: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ}، الرابع: {كأنما أُغْشيت}. وينبغي أن لا يجوز الفصل بثلاثِ جملٍ فضلًا عن أربع.وقوله: {وَتَرْهَقُهُمْ} فيها وجهان أحدهما: أنها في محل نصب على الحال. ولم يُبَيِّنْ أبو البقاء صاحبَها، وصاحبُها هو الموصولُ أو ضميرُه. وفيه ضعفٌ لمباشرته الواو، إلا أن يُجْعَلَ خبرَ مبتدأ محذوف. الثاني: أنها معطوفة على {كسبوا}.قال أبو البقاء: وهو ضعيف لأن المستقبلَ لا يُعْطَفُ على الماضي. فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جدًا.وقرئ: {ويَرْهقهم} بالياء من تحت، لأنَّ تأنيثَها مجازي.قوله: {قِطَعًا} قرأ ابن كثير والكسائي {قِطْعًا} بسكون الطاء، والباقون بفتحها. فأما القراءة الأولى فاختلفت عبارات الناس فيها، فقال أهل اللغة: القِطْع ظلمة آخر الليل. وقال الأخفش في قوله: {بقِطْع من الليل} بسواد من الليل. وقال بعضهم: طائف من الليل، وأنشد الأخفش: وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ قِطْعة نحو: دِمْنة وَدِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب {مظلمًا}، فإنه على قراءةِ الكسائي وابن كثير يجوز أن يكونَ نعتًا لـ {قِطْعًا}، ووُصِف بذلك مبالغةً في وَصْف وجوهِهم بالسواد، ويجوز أن يكونَ حالًا فيه ثلاثةُ أوجه:أحدها: أنه حالٌ من {قِطْعًا}، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو {من الليل}.والثاني: أنه حالٌ من {الليل}.والثالث: أنه حالٌ من الضميرِ المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة.قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت {مظلمًا} حالًا من {الليل} فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكونَ {أُغْشِيَتْ} من قِبل أنَّ {من الليل} صفةٌ لقوله: {قِطْعًا}، وكان إفضاؤه إلى الموصوفِ كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكونَ معنى الفعل في {من الليل}.قال الشيخ: أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصلَ أن يكون العاملُ في الحال هو العاملَ في ذي الحال، والعاملُ في {من الليل} هو الاستقرار، و{أُغْشِيَتْ} عاملٌ في قوله: {قطعًا} الموصوف بقوله: {من الليل} فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أَوْلى، أي: قطعًا مستقرةً من الليل، أو كائنةً من الليل في حال إظلامه.قلت: ولا يَعْني الزمخشري بقوله: إنَّ العامل أُغْشِيَتْ إلا أنَّ الموصوفَ وهو {قِطْعًا} معمول لأُغْشِيَتْ والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصفة، والصفة هي {من الليل} فهي معمولةٌ لـ {أُغْشِيَتْ}، وهي صاحبةُ الحال، والعاملُ في الحال هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العاملَ في الحال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقةِ. ويجوز أن يكونَ {قِطْعًا} جمع قطعة، أي: اسم جنس، فيجوز حينئذٍ وصفُه بالتذكير نحو: {نَخْلٌ مُنْقَعِر} والتأنيث نحو: {نخل خاوية}.وأمَّا قراءة الباقين فقال مكي وغيره: إن {مظلمًا} حال من {الليل} فقط. ولا يجوز أن يكون صفةً لـ {قِطَعًا}، ولا حالًا منه، ولا من الضمير في {من الليل}، لأنه كان يجب أن يقال فيه: مظلمة. قلت: يَعْنُون أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعه هؤلاء وقالوا: جاز ذلك لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ.وقرأ أُبَي: {تغشى وجوهَهم قِطْعٌ} بالرفع، {مظلمٌ}.وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وإذا جَعَلْتَ {مُظْلمًا} نعتًا لـ {قطعًا}، فتكون قد قَدَّمْتَ النعتَ غير الصريح على الصريح.قال ابن عطية: فإذا كان نعتًا يعني مظلمًا نعتًا لقطع فكان حقه أن يكون قبلَ الجملة، ولكن قد يجيءُ بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعًا استقرَّ من الليل مظلمًا على نحو قوله: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155].قال الشيخ: ولا يتعيَّنُ تقديرُ العاملِ في المجرور بالفعل فيكونُ جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعًا كائنًا من الليل مظلمًا. قلت: المحذورُ تقديمُ غيرِ الصريحِ على الصريح ولو كان مقدَّرًا بمفرد.و{قطعًا} منصوبٌ بـ {أُغْشِيَتْ} مفعولًا ثانيًا. اهـ.
|